الصفحة الرئيسية / لاهوت وعقيدة







مراجع عربية حول التأله

مدخـل إلى العقيدة المسيحية
كوستى بندلى

"... بالتجسّد أخـذ الله طـبيعـتنا البشرية المنحطـّة, الساقطة, واتحـدت مع لاهـوته اتحـادًا فائق الوصف ...
ليداوى الله بالتجسّد النزيف الروحى الذى هـو الخطيئة الأصـلية ...
بالتجسّد بث الله حـياته فى الإنسان المريض, ليعـيد إليه القـوة الروحية التى خارت والجمال الذى تشوّه ...
بالتجسد اتحـد الله ذاته بالإنسان لتسرى فى الإنسان حـياة الله ...
لقـد رأينا ان الإنسان سقط لكونه أراد أن يجعـل نفسه إلهـًا دون الله, بالاستغـناء عـن الله ...
لقـد كان يتوق إلى التألّـه ولكنه ضلّ الطـريق إذ اعـتقـد أن التألّـه يتم بانتفاخ الأنـا ...
فالله لم يخلق الإنسان ليكون له عـبدًا بل شريكًا فى حياته الإلهية ...
ولكن هذه الشركة فى الطبيعة الإلهية لم يكن ممكنًا بمعـزل عـن الله بلّ كان مشرطًا باتحـاد الإنسان بالله ...
لأن من الله, ومن الله وحـده, يستمد الإنسان كل موهبة وقـوة وحـياة ...
خارج الله ليس سوى العـدم والفـراغ والمـوت ...
ولكـن الإنسان استمع على خـداع الشرير فطمع بالتألّـه دون الله, فلم يبلغ مأربه بل انحطّ من مستواه الإنسانى الأصـيل وأخضع طبيعـته للمـوت ...
لقـد كانت وعـود الشيطان كاذبة, لقـد قال عـنه يسوع أنه " كَـذَّاب وَأَبُواَلْكَـذِب " [ يوحنا 8: 44 ], عـندما اعـلن للإنسان أنه بمخالفة الله يصـير إلهـًا ...
تلك الوعـود البراقـة كانت وهمـًا وخـداعـًا ولكن مل لم يستطع الإنسان أن يحققه عـندما تشامخ حققه له الله عـندما نزل إليه ...

وحتى لا يتششت القارئ فى معنى أن الإنسان تألّه بالتجسد؟...
هـذا لا يعـنى أننا أصبحـنا آلهة بالطبيعة, فإننا مازلنا مخلوقات...
ولكن التألّـه يعـنى أن حـياة الله قـد أُعْطيت لنا فصـرنا مشاركين له فى محبته, فى مجده, فى قـوته, فى فـرحه, فى حكمته, فى قـداسته, فى خلوده...
لم ولن نبلغ جوهـر أو لاهـوت الله لأنه دائمًا متعـالٍ لا يمكن الوصول إليه, ولكن القـوى الإلهية أعْطيت لنا وأصبحت فى متناولنا...
هـذا ما اوضحه بنوع خاص القـديس " غـريغوريوس بالاماس" وثبتته المجامع الأرثوذكسية...
بهـذا المعنى ينبغى أن نفهم كلمة الرسول بطـرس:
[ كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ،
اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.
وَلِهَذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً،
وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى،
وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً ] [ 2 بطرس 1: 3 ـ 7 ] ..."


الرؤية الأرثوذوكسية لله والإنسان
المطران جورج خضر
منشورات النور - 1982

"... إذا كانت النعمة التي فينا عملا إلهيا وليست هي الله نفسه فنحن لسنا مع الله والهوة قائمة أبدا بيننا وبينه. ولذلك كان ينبغي أن تكون النعمة التي فينا من الله نفسه أي تيار منحدرا منه، من صميمه ..."


خطيئة آدم وخلاصنا
القديس سمعان اللاهوتي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

إن الرب الذي أتى إلى العالم وتأنّس قدّم للبشر الصلاحين العظيمين التاليين: لقد وحّد الطبيعة الإلھية مع البشرية حتى يُتاح للإنسان أن يصير إلھاً، وفي ھذا الإنسان الذي صار إلھاً بالنعمة، سكن الثالوث الفائق القداسة سرياً. فكيف يqستطيع مَن مُنِح ھذه العطايا العظيمة أن يخطأ بعد ھذا

كما يقول الإنجيلي يوحنا: "كلّ مّن ھو مولود من لله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من لله" 1يوحنا 9:3


استقلال التجسّد الإلهي عن سقوط الإنسان
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
تعريب الأب أنطوان ملكي

"... يُدخل سر تجسّد ابن الله وكلمته إلى تألّه الإنسان. يشدّد آباء الكنيسة القديسون على أن الله صار إنساناً لكي يجعل الإنسان إلهاً. لا يبلغ أي إنسان إلى التألّه إلا عِبر ابن الله وكلمته المتجسّد. يناقش اللاهوتيون المعاصرون ما إذا كان التجسّد قد استلزم سقطة آدم أو إذا كان التجسّد مستقلاً عن سقوط الإنسان. وتقوم هذه المناقشة لأنّ هناك نصوصاً لآباء الكنيسة حول هذه السقطة.

 

أ)  الموقف العام لآباء الكنيسة
تنبغي الإشارة منذ البداية إلى أنّ الآباء القديسين لا يواجهون هذا السؤال على منوال سكولاستيكي بطريقة افتراضية. فهم لم يفكروا في ما إذا كان المسيح ليتجسّد أو لا لو لم يسقط آدم. هذه الأسئلة تشير إلى استعمال مفرط للعقل في مجهود لفهم أسرار الله، وهذا سكولاستيكية نموذجية وليس لاهوتاً أرثوذكسياً. يهتمّ لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية بالأحداث التي جرت ويتعاطى مع مسألة شفاء الطبيعة البشرية والناس جميعاً. ينظر هذا اللاهوت إلى الطبيعة البشرية الساقطة وكيفية شفائها للبلوغ إلى التألّه الذي صار من خلال تجسد الله.
في التعليم الآبائي أن في التجسّد اتّحد ابن الله وكلمته أقنومياً بالطبيعة البشرية وهكذا تألّهت هذه الطبيعة وصار الدواء الحقيقي والوحيد لخلاص الإنسان وتألّهه. من خلال المعمودية المقدسة يستطيع الإنسان أن يصير عضواً لجسد المسيح ومن خلال المناولة المقدسة يستطيع أن يشترك في الجسد المؤلّه للمسيح، الجسد الذي أخذه من والدته السيدة. لو لم تتم هذه الوحدة الأقنومية بين الطبيعتين الإلهية والبشرية، لما كان التألّه ممكناً. لهذا السبب كان التجسّد الغاية الأخيرة لخلق الإنسان. إن آلام المسيح وصليبه هي الأمور التي أضافها سقوط آدم. يقول القديس مكسيموس أن التجسّد كان لخلاص الطبيعة، والآلام كانت بهدف تحرير أولئك الذين بالخطيئة امتلكهم الموت.
يقول القديس أثناسيوس الكبير أنه كان ينبغي أن يتجسّد ابن الله لسببين أساسيين. أولاً، ليغيّر الفاسد إلى عدم الفساد والمائت إلى عدم الموت، وهو ما لم يحدث بالتوبة البسيطة إنما باتّخاذ الله الجسد البشري المائت والسريع التأثر. ثانياً، لكي يتجدد الإنسان بالمسيح لأن الابن وكلمة الله هو المثال الأول للإنسان.
هذا الموقف اللاهوتي للقديس أثناسيوس لا يعارض موقف آباء الكنيسة الآخرين الذين سوف نراه بعد قليل والذين يتكلّمون عن أن التجسّد الإلهي لا يفترض السقوط كشرط مطلق. وهذا لسببين أساسيين.
أولاً لأن في التحليلات التي يقدمها، ينظر القديس أثناسيوس إلى الإنسان الساقط بشكل خاص فيتحدث عن سقوط الإنسان وإعادة تجديده. يرتكز لاهوت القديس على الحقيقة القائمة. وهو يهتم بشكل جدي بتجديد وإصلاح هذا الإنسان الذي لبس الموات وإمكانية التجربة.
ثانياً، لأنه يتحدث عن سر التجسد الإلهي وتدبير الله كما نعرفه اليوم. فعندما يتكلّم عن التجسد والتألّه هو يعني تجسد المسيح وآلامه وصليبه وقيامته. يرى القديس أثناسيوس هذا كافياً ولا يتابع إلى تحاليل أخرى.
إذاً، تختلف افتراضات القديس أثناسيوس الكبير عن افتراضات غيره من الآباء القديسين الذين سوف نتوقف عندهم في الجزء التالي. إنهم لا يتكلمون عن الأمور نفسها. ينبغي أن نكون قادرين على ولوج نوس الآباء وتعليمهم كي لا نكون مخطئين."


المرض، الشفاء والمعالِج بحسب القديس يوحنا السلمي
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
تعريب الأب أنطوان ملكي

" ... تذكّرنا الصورة والتكيّف بحقيقة أن هدف العلاج الأرثوذكسي هو تألّه الإنسان وليس التوزان النفسي. هذا العمل إذاً يقوم به الكاهن الذي اتحدت نفسه مع الله وبالتالي "لا يعوزها كلام غيرها لتتعلّم. فإنّ هذه النفس المغبوطة تحمل في ذاتها الكلمة الأزلي وهو معلمها ومرشدها ونورها" (100). لا يعمل نص القديس يوحنا على المستوى البشري بل الإلهي. إنه لا يشير إلى حالات من المرض النفسي أو العصبي، لكن إلى أناس يريدون أن يحققوا واقعهم الداخلي، الذي هو إنجاز هدف خلقهم، أي التأله. إن هذا الهدف هو بالضبط ما يشكّل جوع الإنسان وعطشه الأكبر. "


الثالوث الأقدس
المطران كيرلس سليم بسترس

الفصل الثاني النعمة في كتابات آباء الكنيسة


هناك تيّاران في لاهوت النعمة عند الآباء: فالآباء الشرقيّون يرون النعمة في تأليه الإنسان. بينما يرى الآباء الغربيّون النعمة في التحرّر من الخطيئة. فالتيّار الأوّل يستند إلى كتابات يوحنا الإنجيلي، ويشدّد على تجسّد الكلمة الذي بواسطته يصبح الإنسان ابن الله، بينما يرتكز التيّار الثاني على رسائل بولس الرسول، ويرى في النعمة مساعدة يعطيها الله للإنسان ليحيا حياة قداسة على مثال المسيح. فالتيار الأول يركّز على كيان الإنسان، بينما يركّز التيّار الثاني على عمله. فالنعمة عند آباء الكنيسة الشرقيّة تهدف إلى رفع كيان الإنسان ليصير على صورة الله. أمّا عند آباء الكنيسة الغربيّة فتهدف إلى تحرير الإنسان من الخطيئة.

 

أولاً- آباء الكنيسة الشرقيّة


لقد عبر الآباء عن أفكارهم في موضوع النعمة بمناسبة ما كتبوه في الأسرار وما قام من جدل لاهوتي حول سريّ التجسّد والثالوث الأقدس.

أ) النعمة والأسرار

النعمة هي حضور الثالوث الأقدس في نفوس الذين يتقبّلون سرّ المعموديّة، فيولدون من جديد، ويتّحدون بالله، وما حياتهم إلاّ تطبيق لما حصلوا عليه بالمعموديّة.

1- ايريناوس: يشدّد على الولادة الجديدة أكثر ممّا على مغفرة الخطايا. فبالمعموديّة ينال المؤمن الروح القدس الذي يسكن فيه ويتّحد به.

وهذا الروح يجعل من المؤمن ابن الله، شبيهاً بالابن، إنساناً روحياً، بانتظار ملء النعم في رؤية الله في المجد الأبديّ.

"فالاتّحاد بالروح القدس لا يمكن فصله عن الاتّحاد بالابن والآب. فالنعمة إذاً هي قبل كل شيء موهبة غير مخلوقة: إنها حضور الثالوث في المؤمن لتقديسه ومساعدته على أن يكون إنساناً روحيّاً.

 

2- أوريجانوس: يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها. فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة، يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا في قلبه.

بالروح يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ حياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى الكلمة في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على صورة الكلمة. "إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة. إن لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله.

 

3- كيرلس الأورشليمي: إن المعموديّة تمنحنا الروح القدس ومواهبه المختلفة: "إن المعموديّةَ التي ستتقبلونها هي أمر عظيم: إنها انعتاق الأسرى، مغفرة الخطايا، موت الخطيئة، ولادة جديدة للنفس، ثوب من نور، ختم مقدس لا يمحى، طريق إلى السماء، نعيم الفردوس، عربون الملكوت، موهبة التبّني". ثم يذكر سكنى الروح القدس في النفس، التي تصبح "مسكنا إلهيّا".

 

ب) التجسد مبدأ التأليه والتبنّي

1- التأليه والصورة والمثال: يرى آباء الكنيسة الشرقية في تألّه الإنسان النعمة الكبرى التي يمنحها الله "للإنسان. فبينما كان الفلاسفة اليونان ينشرون نظريّة أفلاطون في التشبّه بالله، والأديان اليونانية تسعى إلى الوصول إلى خلود الآلهة بواسطة طقوس سحريّة أو طرق تقشّف بشريّة، راح اللاهوتيّون المسيحيّون يعلنون أن الاشتراك في الطبيعة الإلهية والتشبه بخلود الله والتأله لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها بجهوده الخاصّة، بل هي نعمة من الله. فالله نفسه نزل إلى البشر وتجسّد ليرفع الإنسان إليه ويشركه في حياته الإلهية. وقد صار أمراً تقليديًّا في اللاهوت الشرقيّ تقسيم تاريخ الخلاص إلى ثلاث مراحل:

 

- خلق الله للإنسان على صورته ومثاله

- سقوط الإنسان بالخطيئة الأصليّة

- إعادة الصورة القديمة بالتجسّد والفداء

 

ويقوم التألّه، أو اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية الذي ورد ذكره في رسالة بطرس الثانية (1: 4)، على الخلود وعدم الفساد والحياة الأبديّة بعد الموت. فالإنسان مائت من طبيعته، أمّا الله فمن طبيعته لا يموت. ومن ثمّ فالاشتراك في طبيعة الله يعني أولاً عدم الموت.

وعندما يفسّر آباء الكنيسة قول الكتاب المقدّس إنّ الله خلق الإنسان "على صورته ومثاله" يميّز بعضهم بين الصورة ( ) والمثال ( ). فالصورة هي في طبيعة الإنسان، إمّا في جسده، ونفسه حسب إيريناوس، إمّا في نفسه فقط حسب أكّليمنضوس الإسكندريّ وأوريجانوس. وهذه الصورة لا تُفقد بالخطيئة. أمّا المثال فقد فقده الإنسان بالخطيئة، وأعاده إلينا الكلمة المتجسّد. فمن يقبل خلاص المسيح وفداءه يشترك في الطبيعة الإلهية، أي في عدم الفساد وفي الحياة الأبديّة.

أمّا أثناسيوس وغريغوريوس النبيصيّ فيريان في "الصورة" ختماً إلهيًّا يضعه الله في روح الإنسان وعقله. وهذا الختم يصبح قاتماً بالخطيئة، ويعيده الفداء إلى بهائه الأوّل. أمّا "المثال" فهو الاقتداء والتشبّه بالله. فالإنسان يصير تدريجياً على مثال الله يتألّه باشتراكه في حياة المسيح الإله، وذلك بواسطة الإيمان وسري المعموديّة والافخاريستيا.

 

2- التبنّي: يرى أثناسيوس وكيرلّس أنّ التألّه لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان إلاّ بالتبنّي. فالطبيعة الإنسانيّة معرّضة للفساد وبعيدة كلّ البعد عن الله. الله وحده يستطيع أن يؤلّه الإنسان. وقد صنع ذلك بواسطة الابن الذي تجسّد ليجعل من جميع الناس أبناء الله. فالابن وحده صورة الله المماثلة للآب. فهو وحده إذاً يستطيع أن يجعل الإنسان على مثال الله. "الابن إله، لأنّه يؤلّهنا". "لقد صار الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً."

ج) الروح المحيي: يشدّد آباء الكنيسة اليونانية على ما يميّز الروح القدس عن الخلائق. فالروح يقدّس الإنسان ويؤلّهه، فهو إذاً قدوس وإله، يقول أثناسيوس. وكذلك يقول القدّيس غريغوريوس النزينزيّ: "إذا كان الروح القدس لا يحقّ له السجود والعبادة (كإله)، فكيف يصيّرني إلهاً بالمعموديّة؟" ويتكلّم باسيليوس عن حضور الروح القدس في النفس حضوراً مقدّساً ومؤّلهاً. "وهذا الروح هو قدوس من طبيعته كما أنّ الآب هو قدوس والابن قدوس من طبيعتهما".

يشبّه كيرلّس الإسكندريّ موهبة الروح بالختم الذي نقشت عليه زهرة. فالختم هو الروح القدس نفسه، والزهرة المنقوشة على الختم هي النعمة الخلوقة. فلا وجود للنعمة في نفس المؤمن إلاّ إذا حضر الروح القدس نفسه ليسكن في تلك النفس. وهكذا يشترك المسيحيّ ليس فقط بمساعدات الروح القدس، بل يشترك في الطبيعة الإلهية ذاتها.

+++

 ثالثا - الكنيسة جسد المسيح

 

1- غاية التجسد تأليه الإنسان

"لماذا صار الإله إنساناً"؟ "لكي يصير الإنسان إلهاً". هذ هو جواب آباء الكنيسة الشرقية منذ القدّيس إيريناوس. فغاية التجسّد ليست التكفير عن الخطيئة الأصلية بل تأليه الإنسان بولادته ولادة جديدة في المسيح وعلى صورة المسيح. إنّ القدّيس إيريناوس يرى أنّ الخطيئة ليست حادثاً غيّر قصد الله فقرّر إرسال ابنه لخلاص العالم، بل إن تجسّد ابن الله هو في قصد الله منذ خلق العالم. إنّ العالم خلق طفلاً، والخطيئة هي مرحلة عابرة ملازمة لحالة الإنسان قبل بلوغه. في المسيح بلغ الإنسان كمال الإنسانية، في المسيح ظهر "الإنسان البالغ". وزمن الكنيسة هو الزمن الذي يدعى فيه كل إنسان ليحقّق في ذاته "حالة الإنسان البالغ وملء اكتمال المسيح" (أف 4: 13).

وهذا الإنسان البالغ هو "الإنسان الجديد" الذي يتكلّم عنه بولس الرسول في رسالته إلى الأفسسيين حيث يجمع بين "الإنسان البالغ" و "الإنسان الجديد":

"ومن ثمّ، فلا نكون بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج، وتعبث بنا كل ريح تعليم على هوى مكر الناس وخبثهم في طرق التضليل، بل نعتصم بالحق في المحبة فننمو في كل وجه، مرتقين نحو من هو الرأس، أي المسيح، الذي منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة، وبتعاون جميع المفاصل، على حسب العمل المناسب لكل عضو، ينشئ لنفسه نمواً، ويبنى في المحبة" (أف 4: 14- 16).

وبعد هذا التوسّع في نمو الإنسان إلى المسيح، يتابع الرسول فيتحدّث عن الإنسان الجديد:

"ينبغي لكم أن تخلعوا عنكم، ما هو من أمر حياتكم السالفة، الإنسان العتيق، الفاسد بشهوات الغرور، وأن تتجدّدوا في صميم أذهانكم، ودق تلبسوا الإنسان الجديد، الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق" (4: 2- 24).

وحتى يستطيع الإنسان أن يحيا حياة الله كان لا بدّ أن يصبح الإله إنساناً ليرفعه إليه، كان لا بدّ أن يأتي آدم الثاني إنساناً روحياً، إنساناً "نازلاً من السماء". إن هذا التعبير المكاني هو صورة بشرية لحقيقة هوى إلهية هي أن المسيح هو ابن الله، هو "إنسان كامل وإله كامل"، بحسب تعبير مجمع خلقدونية. وهذا ما يعينه بولس بقوله:

"جُعل الإنسان الأوّل، آدم، نفساً حية، وآدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يكن الروحاني أوّلاً، بل الحيواني ثم بعدئذٍ الروحاني. الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال التراب يكون الترابيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الترابي فلنلبس أيضاً صورة السماوي" (1 كو 15: 45- 49).

وهذا ما يعنيه أيضاً يسوع بقوله "إنّه لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر الكائن في السماء" (يو 3: 13).

إن تأليه الإنسان لا يزيل طبيعته الإنسانيّة. فكما أنّ الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية اتّحدنا في شخص المسيح "دون اختلاط ولا انفصال"، بحسب قول المجمع الخلقيدوني عن المسيح الإله والإنسان، كذلك في الإنسان المؤله بالمسيح تبقى الطبيعة الإنسانية كاملة، ولكنّ النعمة تضفي عليها بعداً جديداً هو بعد الإتحاد بحياة المسيح وكيان المسيح، حتى يتصوّر المسيح في الإنسان. يقول متوديوس الأوليمبي: "كأنّ الكنيسة حبلى وفي المخاض، إلى أن يتصوّر المسيح في كلّ منا، بحيث يشترك كل من القدّيسين في المسيح، ويصير مسيحاً".